عفواً…أرض الحياد ملعونة (3-12)

الثورة ليست خطيئة.

الأساطير كانت تمثل ديانات عاشت عليها حضارات قديمة، المميز فيها ليس التباين بل التشابه، فهي تبدو وكأنها سرد لنفس القصة بأسماء مختلفة، فإيزيس وعشتار وفينس كلها كانت تمثل ألهة الأنوثة والحب في أكثر من حضارة، الأساطير نقلت إلينا عبر أعمال الأدباء والشعراء مثل الإلياذة والأوديسة لهوميروس، ووجودها بكثافة في الأعمال الأدبية يبين مدى الإهتمام الذي كان يولى إليها.

في رأيي المتواضع أن للأساطير القديمة الكثير من الدلالات لأصول البشرية، أرى أن الأنسان كان دائماً يحاول أن يشرح الإنسانية، أن يفصل المشاعر التي تجعلنا بشراً، وكان يريد أن يحفظها ويؤكد عليها، فكان هناك إله الحب وإله المعرفة وإله الحياة والموت والحرب والسلم والحصاد والحظ…إلخ

في أحد الأساطير القديمة ذكرت قصة بروميثيوس، كان بروميثيوس كما تذكر القصة اليونانية أحد الجبابرة (من نسل الألهة) سرق من الإله زيوس النار وقدمها إلى الفانين وبذلك أعطاهم أساس المعرفة، فعاقبه زيوس بأن ربطه في قمة جبل إلى صخرة وسلط عليه نسراً يأكل كبده ولأنه مخلد فأنه يتعافى فقط كي يأتي النسر مرةً أخرى لكي يأكل كبده، وبقي كذلك قروناً إلى أن أتى هرقل وحرره كما تقول الأسطورة.

تلك الأسطورة تتكلم عن ثائر تحدى السلطة وتجاوز الأنانية ليهدي لغيره نعمة الحياة والتحرر من سيطرة الألهة ليقرر الفانون مصيرهم بيدهم.

لماذا يحرق الأنسان نفسه؟ أي مصير  ذاك الذي يختاره؟ كيف يستطيع إنسان أن يختار هذا النوع من العذاب بملء إرادته؟ قد تكون هذه الأسئلة راودتك في العام المنصرم.

عندما يحرق المرء نفسه فهو لا يريد إيصال رسالة، هو تجاوز تلك المرحلة.

عندما يحرق شخص نفسه فهو لا يريد أن يموت، هو مات قبل ذلك بكثير.

عندما يحرق إنسان نفسه فهو لا يريد أن يصلح، فلا إصلاح يعنيه بعد ذلك.

يجب أن تعرف كيف عاش لا كيف مات ولما، حين يحيى المرء في عذاب بعد عذاب، وتكون حياته سلسلة من الأيام المتشابهة، أيام بلا أمل فهو يريد أن ينقل لكم ذلك بإحساسه تماماً، يريد أن يقول لكم أنا أتعذب لكني لن أتعذب بصمت بعد اليوم، أنا سأتعذب وعليكم أن ترو عذابي وتحسوه، عليكم أن تشهدوا جسدي المحروق كحرقة قلبي، أنا كنت أموت على مدى سنين والأن جاء الوقت لكي أعود إلى الرماد لأستريح، لم تعودوا تهموني في شيء كما لم تهتموا بي طوال حياتي، قلتبقوا على أرض الحياد ما أظن أديمها إلا من رماد المعذبين.

ما قاموا به هو أنهم أوصلوا لنا النار المقدسة، أوصلوا لنا أساس المعرفة الجديدة بعد أن ضاعت لقرون، لم يأبهوا بالعذاب وكذلك هم الجبابرة.

إلى من أحرقوا أنفسهم في تونس والبحرين وكل الوطن العربي، أنا فهمتكوا، أتمنى أن يفهم الأخرون.

حيادكم يحرقنا.


عفواً…أرض الحياد ملعونة (2-12)

في الأساطير الأغريقية كانت الأميرة كاساندرا من طروادة تقضي كل ليلة في معبد أبولو حين لمحها أبولو أغرم بها وقرر أن يمنحها موهبة لا تقدر بثمن، قرر أن يهديها القدرة على تنبأ المستقبل، عندما رفضت كاساندرا أن تصبح من جواريه قرر أن يلعنها، بدل أن يسلبها القدرة قرر أن يجعلها لعنتها لكي تتذكر دوماً ما قدمه وكيف رفضته، قرر أن يلعنها بأن يجعل الجميع لا يصدق أياً مما تتنبأ به، دفع ذلك بكاساندرا للجنون، كانت ترى دمار طروادة ولكن لم تستطع منعه.

رغم كون القصة مجرد أسطورة إلا أنها تمثل أحد محن البشرية وقضية أزلية، المعرفة وعبئها، الضعف وقلة الحيلة.

التاريخ: 14 فبراير 2002

أستيقظ في سرير المستشفى وأنظر حولي، أحاول التخلص من أثر المخدر، على الطاولة أمامي جريدة عنوانها “ميثاق تكمل عامها الأول” وصورة طفلة يعانقها والدها.

لم يتغير منذ عام الكثير فعلياً سوى أن الإحتجاجات توقفت، لكن الأمل كان التغيير الأكبر، كان الجميع يتأمل خيراً ما عدا عدد قليل لم يكن يثق أن القصة وصلت نهايتها، لم أكن أتوقع نهاية القصة، لأن القصص حين تنتهي تبدأ قصص جديدة، في خلال شهور قليلة تبين جلياً أن القصة القديمة لم تزل مستمرة.

في منتصف أبريل من تلك السنة كانت الإنتفاضة الفلسطينية في أوجها، وكان شعب أوال من المتعاطفين معها، كيف لا وهم يعرفون جيداً معنى العيش تحت ظل الخوف، هم يعرفون معنى أن تكون في أرضك غريباً وأن تحيا متهماً منذ ولادتك، خرجوا وجلس في البيت من يراهن على عروبتهم، خرجوا وجلس في عاره من يتهمهم بالطائفية، خرجوا بالألاف ورجعوا لمنازلهم ينقصهم واحد، كانت خظيئته التي لا تغتفر أنه قام بما لم تستطع السلطة القيام به، أزال العلم الأمريكي ليزرع مكانه علم فلسطين، وكان عقابه على ذلك الموت في الشارع ذاته.

علمت حينها أن ما رأيناه هو نهاية فصل ولا تزال القصة مستمرة، فلازالت الحياة رخيصة لدى السلطة، فعلمٌ أثمن من روحِ شاب، ورأينا كيف أن طريقاً كان أهم من أرواح العديد، وكيف أن أوامر القتل سهلة وقد تأتي بعد ساعات فقط من خطاب الإعتذار.

كانت سنة الإنقلاب، الإنقلاب على المواثيق ولكن الأهم منه الإنقلاب على الأمل، أتحمل بعض اللوم في خيبة أملي لأني كنت على علمٍ بما يكفي لكي أعلم أن التاريخ سيتكرر، فالإنقلاب على دستور 73 لم يكن سوى حادثةٍ تلتها حوادث تجعلك على ثقة أن التراجع في الوعود أصبح عادياً جداً.

بداية حراك التسعينات كان بإنشاء العرائض، في 1992 كانت العريضة النخبوية التي وقعت عليها الشخصيات الكبيرة في البحرين مطالبة بالعودة إلى دستور 73 وتفعيل العمل السياسي، وفي 1994 كانت العريضة الشعبية التي تصدرها الشيخ الجمري كونه الشخصية الدينية الأبرز وأحد أعضاء المجلس الوطني قبل حله وكان له دور كبير في تأسيس حركات المعارضة خارج البحرين، أعتقل الجمري في 1994 مع مجموعة من القادة مثل الأستاذين حسن مشيمع وعبد الوهاب حسين، خرجت مظاهرات في مناطق مختلفة، فقرر المسئول الأمني إيان هندرسون الدخول في مفاوضات مع القادة في السجن وخرجوا بمبادرة للحوار، وأفرج عن الأستاذ حسن مشيمع وأرسل إلى لندن لإقناع المعارضة بالخارج بالقبول بالمبادرة -مفارقة مضحكة- رجع الأستاذ حسن إلى البحرين بعد أن وصل إلى إتفاق مع المعارضة في الخارج وبدا كأن الأزمة في طريقها إلى الحل في 1995، لكن حين أتى موعد التنفيذ تراجعت السلطة وأخلت بالإتفاق.

وحتى بعد الإنقلاب على الميثاق، إلتقى الأستاذ حسن مشيمع مع الملك في بريطانيا في 2006 ووعده أنه في حال عودته إلى البحرين سيتم فتح باب الحوار لكي تتم العودة إلى الميثاق والعمل على إنشاء دستور جديد عقدي بدل دستور المنحة ليعود ويعتقل عند وصوله.

ويأتي بعدها ما سمي بحوار ولي العهد ليتابع التقليد القديم بتقديم الوعود ثم الإنقلاب عليها.

كلنا نعرف اليوم أن الشعب قد تعب من الكذب والغدر، وأن الشعب لم تعد تنطلي عليه الوعود ولا التصريحات والخطب، نحن نعلم أن الوضع يشير إلى المزيد من الغضب وردات الفعل، لكن رغم معرفتنا إلا أننا لا نملك القدرة على تغيير المسار، هي لعنة كاساندرا، لكنني أرفض أن أصل إلى الجنون، لن أبقى على أرض الحياد الملعونة.

أتوقف هنا لهذا الأسبوع ولنا عودة…


عفواً…أرض الحياد ملعونة (1-12)

في الإنجيل، في سفر التكوين تروى قصة قابيل وهابيل، يروى فيها أن الرب خاطب قابيل قائلاً له (هذه ترجمتي للنص، ليست مرجع وإنما تقديرية) ويحك أتدري ما فعلت؟ إستمع إلى دمِ أخيكَ يناجيني من الأرض، ومن الأرض أستاق لك لعنتك، التراب الذي إحتضن دم أخيك الذي أهدرته بيدك، عندما تعمل فيه لن يعطيك حصاداً، وستظل هائماً في الأرض دون أن تستريح. وسميت الأراضي القاحلة التي لا تعطي ثمراً في التاريخ المسيحي بأراضي أثر قابيل الملعونة.

في ما يقارب العام في محبوبتي البحرين، كانت الحياة اليومية كصفحة من كتب التاريخ أو بالأصح كصفحة من كتب أحدى الروايات الخيالية، القصة بدأت قبل ما يقارب 11 سنة، بدأت بلحظة أمل.

كان قائد الحراك قد قرر أن يقدم نفسه قرباناً ليفدي غيره، في أقوى لحظات شجاعته وبكل الإيثار إمتلك ما يكفي من الشجاعة ليضحي لا بنفسه بل بما هو أثمن منه، قرر أن يضحي بتاريخه، أن يضع نفسه كبش فداء لكل لائم، قرر أن يقوم بمغامرة لا يقوى عليها إلا ذوي القلوب القوية، وضع ثقته في من لم يستحقها.

أذكر مقابلة الجزيرة، أذكر الكرسي الخالي، أذكر إطمئنان السلطة بعد خطبة الجمعة، أذكر كيف كان دكتور منصور يقول أن هذه الوثيقة تحل أزمة اليوم لو نفذت ولا ضمان لدينا لتنفيذها وهي ليست وثيقة المستقبل.

أرى أن طبيعة الإنسان هي التفاؤل، حين يرمى الطفل في الهواء يضحك لأنه كله إيمان أنه لن يقع، كان الفراعنة والدلمونيون يؤمنون بالحياة بعد الموت لذلك كانوا يدفنون معهم مقتنياتهم، هو جزء من تفاؤل الإنسان وهو الجزء الذي يدفعنا للإيمان والحياة يوماً بعد يوم، معاناة بعد معاناة.

كان ذاك اليوم فرصةً أخرى لكي يُطهِر النظام صفحته، لكي يُعَمدَ في مياه البحرين ويولد من جديد لكنه أهدرها.

ستظل أشباح الماضي تلاحقنا، لأنها لا تستطيع العبور، لأنها لم تنهي ما بدأته، فهي لازالت تأن كل ليلةٍ كأنين بروميثيوس.

أشباح الماضي هي عائلات من يعاني اليوم وكأنهم ورثوا المعاناة عندما لم يجدوا غيرها كي يورث، لا نزال نعيد الماضي لأننا لم نستطع أن نفهمه، لم نستطع أن نتعلم منه ولم نستطع أن نمحي أصوله.

إن كان هناك درسٌ يستطيع الماضي أن يثبته بوضوح فهو أن أرض الحياد ملعونة، مهما حاولتم أن تزرعوها لن تثمر.

يتبع…


ربيع الثقافة

أكتب هذاالمقال وأنا “مستلقي” على كرسي خشبي تحت الشمس، رغم كل المنازل التي تستضيفني كل ليلة وكل الأصدقاء الذين يحبوني وأحبهم إلا أني أحن دائماً لصديقي القديم “الصمت”، كل ضجيج الحياة حولنا يغتصب الصمت، يسلبنا القدرة على سماع صوت ضميرنا ودونه لا نصبح صماً بل عمي، فمن لا يقوده ضميره في طريق الحياة يضل الطريق.

البحرين، عاصمة الثقافة العربية هذا العام. هذه الجملة تختزل مئات النكت، ودموع، لكني وبصدق أعتقد أنه لا مكان أفضل من البحرين لأختياره عاصمة الثقافة في هذه المرحلة من تاريخ العرب.

الثقافة، الكلمة بحد ذاتها سبقت المفهوم الذي جهد علماء الأنثروبولوجيا لصياغته، في اللغة كان التثقيف في الأساس هو عملية تسوية الرمح لكي لا ينحرف عند رميه، إستخدمها العرب فيما بعد لوصف الفطن الذي يجيد الخروج من المواقف الصعبة بذكاء، لكن المصطلح القديم ليس هو المستخدم حالياً، السبب هو تغير تعريف الثقافة.

لنرجع إلى أصل المفهوم (لأن القصة تشترك مع الحاضر بشكل كبير) في 1894 حكم على ظابط فرنسي يهودي بالنفي بسبب إتهامه بالخيانة والعمالة لصالح المانيا، رفضت عائلته الحكم وقامت بحشد الدعم لقضيته وأستطاعت أن تكسب في صفها بعض الشخصيات المعروفة مثل الكاتب إميل زولا الذي كتب في الموضوع مقالاً لفت إنتباه عدد من الشخصيات المعروفة وكتبوا بياناً في 1898  سموه بيان المثقفين (manifeste des intellectuels) سبب ذلك تكون مجموعتين مجموعة التجمع الجمهوري التي كانت تنادي بحقوق الإنسان وتناهض اللاسامية ومجموعة الوطنيين التي كانت ترفض إعادة المحاكمة وتهدد بالإنقلاب، بعد صراع طويل تم تخفيض الحكم على الظابط إلى عشر سنوات وبعد رفع القضية لمحاكم النقض تم إسقاط التهم وأعيد إليه إعتباره، المهم في الحادثة هو المرجع التاريخي لكلمة مثقف، فعندما أستخدم أعضاء التجمع الجمهوري هذا المصطلح قابلهم خصومهم بالسخرية مع ذلك أستمر العامة في إستخدام الكلمة في إشارة إلى من يملكون أرائهم الخاصة حول الإنسان والمجتمع ويقفون ضد التعسف والإسائة للأفراد أو الجماعات.

هذا التفسير كان هو المستخدم لفترة، لكن إساءة إستخدام الكلمة جعلت الكلمة تخرج عن المعني الذي كانت تحمله، فكلمة المثقف أستخدمت من قبل جماعات لا تهتم بحقوق الإنسان بتلك الدرجة، فظهرت مثلاً وثيقة تبررتعدي ألمانيا على بلجيكا في 1919 (manifesto of the ninety three) وأطلق الموقعون عليها على أنفسهم لقب المثقفين، هم كانوا مجموعة من الأدباء والعلماء لذلك أصبح المصطلح الحداثي للمثقف على إرتباط بالمعرفة.

علماء الأنثروبولوجيا جهدوا بعدها كي يستطيعوا الخروج بتعريف دقيق للثقافة، كان أخر تعريف لها في الخمسينيات من القرن الماضي، إعتبروا فيها الثقافة كمجموعة من الممارسات المشتركة وهذا يجعل لكل مجتمع ثقافة بل حتى المجتمعات الحيوانية كالقرود لها ثقافتها الخاصة (التعلم الاجتماعي في الحيوانات : جذور الثقافة. C. Heyes and B. Galef ص : 319-346)، وهذا قد يناسب الوضع الحالي، فالقمع هو مجموعة من الممارسات المختلفة يشارك بها مجموعات متنوعة لذلك يمكننا أن نعتبر القمع بوسائله المختلفة كثقافة ونعتبر تلك الشخوص كمثقفين كما اعتبرنا القرد.

بهذا التعريف للثقافة نجد أن للسلطة أن تجمع أي مجموعة لتسميهم مثقفين و هذا على الأرجح ما سيحصل (هذا لا ينطبق على كل المشاركين بالطبع، فمنهم الرافضون للقمع بالطبع)، ومن باب الديمقراطية وحرية التعبير أرى أننا يجب أن نسمح لهم بالإحتفال.

لكن يجب أن نعرف أن المثقفين هم ليسوا فئة منفصلة في المجتمع، بل أن كل مجموعة لها مثقفوها فهي نتاج لثقافة الأفراد كالعاملين والبرجوازيين والثائرين والمطبلين، ولذلك يجب أن لا ننسى أن للثورة أبعاد ثقافية تمثل أساس الثقافة في إحترام حقوق الإنسان ورفض التعسف والإظطهاد.

لذا أنا أدعوكم لتكون البحرين عاصمة ثقافة الثورة كما هي عاصمة ثقافة المكارثية والقمع، فليعزف غازي الحداد على وتر البارود بالشرر، فليرسم القرمزي على لوحات الشعر بفرشاة الكلمات، بل لندعوا حتى محبي الحرية، فليغني مارسيل منتصب القامة كما هو شعبنا الذي يمشي شامخاً مفتخراً أنه أنقذ سمعة الخليج، كما دخلنا موسوعة غينيس سابقاً كأطول سلسلة قرأة فلندخلها هذه المرة كأكبر مسرح (وإن لم نستطع منافسة الكوميديا السوداء التي تنتجها وزارة الداخلية كل ذي حين) فلتكن الساحات مسارح لنا ولتكن مسرحياتنا واقعاً لكل الألام التي عشناها، ولندع العالم يقرر أي ثقافةٍ تستحق أن تبقى.

أنا أدعوكم جميعاً لترفعوا الصوت وليقم كلٌ بدوره للتجهيز لمهرجانات البحرين عاصمة الربيع العربي الذي بدأ في المحيط ليشع في الخليج.

محمد الصافي

ساحل سترة الحزين


أدب السجون

أدب السجون هو مصطلح معاصر يصف الأعمال الأدبية التي تنتج من داخل السجون أو تنتج حول ما يجري داخل السجون.

كمثل على ذلك النوع من الأعمال الأدبية تطرح دائماً أعمال المصري أحمد فؤاد نجم (الفاجومي) أو رسائل وكتب سيد قطب العلمية.

لكنني أظن أننا سنبخس الطغاة السابقين حقهم لو إستثنيناهم من قائمة المعذبين الذين يدفعون الناس إلى الإبداع عبر بوابات السجون والألم، فلنا في ذاك تاريخٌ مجيد يجب أن نتذكره، فمثلاً أنا أعتقد أن آل آمية و بني العباس كانوا من السباقين في ذاك المجال ويمكننا أن نصنف أعمال الإمام أحمد إبن حنبل الشعرية من داخل سجون المأمون كأحد أعمال أدب السجون التي سبقت التاريخ الحديث والمعاصر، ويمكن أيضاً أن نضم أعمال أبو فراس الحمداني إلى تلك الفئة، وهناك أعمال أكثر حداثة يمكن أن نضمها كذلك مثل كتاب “نساء المنكر” لسمر المقرن-رغم كل ما يتخللها من قصص مضافة تحيد بها عن الواقعية- بل أن رسائل إبراهيم شريف ومحمد جواد برويز قد تندرج في تلك الخانة.

أدب السجون كان يشد الكثيرين بسبب غموض ما يجري داخل السجون وبسبب ما تحمله الأعمال من مشاعر إنسانية، ولطالما كان الألم مصدراً للإبداع، فأبلغ من يتكلم عن الحرية هو من يفقدها، وأبلغ من يتكلم عن الإنسانية هو من يعاني من غيابها.

في هذه السنة كسر هذا الغموض في سجون البحرين وأصبح معروفاً لدى الجميع، فقد وقف في ذاك اليوم رئيس لجنة البحرين لتقصي الحقائق وقام على الهواء بتعديد وسائل التعذيب في السجون من حرق وصعق كهربائي وضرب بالأسلاك والسياط والأنابيب والتحرش الجنسي وغيره أمام العالم، وأصدر بعدها تقريراً من أكثر من 500 صفحة تسرد في إجزاء منها طرق التعذيب الممنهج والإنحطاط الأخلاقي وغياب المحاسبة في سجون البحرين.

تقرير بسيوني هو توثيق لأحداث حصلت داخل السجون، لكنني أجزم أن أي شخصٍ قرأ التقرير سيتفق معي أنه بدلاً من أن نصنفه كأدب السجون يجب أن نصنع تصنيفاً جديداً ونسميه “قلة أدب السجون”.

أدب المظاهرات

في أثناء خروجي مع أصدقائي في المظاهرات مرت علي كثير من الأقوال التي تنتمي إلى الأعمال الأدبية، بسبب تدهور الحالة الأدبية وحرية التعبير لا يوجد لدينا للأسف من الأدباء من يرغب في التفكير حتى في كتابة كتاب مثل ذلك ناهيك عن نشره، أشارككم بعضاً منها.

حاولت مع صديقي الرجوع إلى المنزل لكني وجدت جميع المداخل إلى المنطقة مغلقة، أتصلت بقريبٍ لي وأخبرته أنني سأبقى معه لبعض الوقت فرحب بنا، دخلنا إلى البيت وبعد السلام والإطمئنان علينا تركنا قريبي وذهب ليأتي لنا بالضيافة المعتادة عند أهل البحرين، سألني صديقي عن مكان الحمام كي يتوضئ للصلاة فدللته عليه، جاء وفرش السجادة ليصلي، نظر إلي وتنهد وقال “لا أدري في كمِ بيتٍ صليت المغرب هذا الشهر، قد يكون بيتي هو أقل مكانٍ صليت فيه”.

في سترة وبينما كان صديقي يدخن بالقرب من سيارته التي أوقفها في ساحةٍ خالية سمعنا صوتً مألوفاً “تن تن تي تن” فعلمنا أنها مجموعةٌ من المتظاهرين دون شك، ذهبنا لنلقي نظرةً عليهم وإذ بنا نتجاذب أطراف الحديث، فجأة سمعنا صوت الطلقات قادماً من بعيد فهربنا من هناك متجهين إلى أقرب بيت، جلسنا وجيء لنا بالماء لنستريح، رأيت أحد المتظاهرين واقفاً بالخارج وملامح القلق باديةٌ على وجهه، ذهبت إليه وقلت له إدخل قد ينظر أحدهم من فوق السور ويراك، قال لي إسئلهم من أين الطريق للجدار الأخر، سئلته ولما الجدار؟ قال سأهرب منه، قلت له ألا تخاف أن تقع وتكسر لك يد أو رجل؟ قال بلى لكني قد دخلت السجن سابقاً وأرى أن إمكانية موتي وأنا أقفز سوراً أقل وأرحم من الموت تحت التعذيب، قلت له وإن كنت تخاف السجن لما تخرج في المظاهرات؟ قال لي أنا أخاف الموت، لكني أخاف عيش الذل أكثر منه.

في كرانة التي كانت محاصرة منذ ساعات الليل الأولى دخلت وصديقي من طريق لم أرى فيه أحداً سوانا، وصلنا إلى مجموعة من المتظاهرين وكانوا يغطون أفواههم وأنوفهم، نظروا إلي وعرفني أحدهم أتى وقال لي أنهم يرموننا بالغازات والمطاط والقنابل الصوتية منذ ثلاث ساعات، كنت سأدعوك للدخول للمنزل لكن سقطت فيه من المسيلات أكثر من الشارع، سألته وماذا فعلت بجدتك؟ أهي بخير؟ قال لي نعم هي هناك تقوم برش الحليب على وجوه الشباب مثل كل ليلة. 🙂

في سترة هرَبتُ ومن كان بالقرب مني إلى بيتٍ أجزم أنه لو قام أحد الشرطة بالإطلاق عليه لتهدمت جدرانه القديمة!، قال لنا أحد أصحاب البيت إلتزموا الهدوء، هناك الكثير من القوات بالخارج، أخرج من كان بالقرب مني هاتفه وأعطاني رقماً لأسجله، ثم أراني بعض الصور لإبنته ذات الثلاثة أشهر كما قال، وقال لي هذا رقم هاتف منزلي إذا إفترقنا إتصل به غداً إذا لم أجبك فأخبرهم أنني أعتقلت. كانت الطفلة ترتدي وشاحاً كتب عليه “أنا مستعد للموت للبحرين”.